هكذا كتبت


هكذا كتبت "أذكر"

الطفولة هي الخطوة الأولى في الطريق الطويل، وهي الابنة الأولى في البناء المقبل. أو كما قال الشاعر العظيم ملتون:

" الطفولة عنوان الرجولة، كما أن الصباح عنوان النهار.

كل منا يحمل طفولته في قلبه ويسير، يتجه يميناً أو شمالاً، صعوداً أو هبوطاً، وتظل هذه الطفولة في قلب قلبه بكل ما فيها من دفء وبكل ما فيها من عذاب.
وأنا تماماً، مثل الكثيرين، لم أحس في أي لحظة من اللحظات بإنفصام ما، بيني وبين طفولتي.
إذا عدت إلى ماضيّ أرى طفولتي مائلة أمام عيني.
وإذا نظرت إلى حاضري أرى طفولتي تشاركني كل خلجاتي.
وإذا تطلعت إلى مستقبلي أرى تلك الطفولة في كل لحظة من لحظات الآتي وفي كل فسحة من فسحاته.
وعندما فكرت أن أكتب عن هذه الطفولة لم تفارقني دمعة في عيني، وغصّة في حلقي.
كنت أحس برغبة عارمة في البكاء، ولكنني أحسست بكثير من الفرح الطاغي.

لقد إكتشفت وللمرة المليون ربما، أن العلاقة بيني وبين تلك الطفولة هي علاقة جد حميمة، تنبض بالدفق الذي لا يكل أبداً، كما شعرت في كثير من الأحيان بعجزي أن أكتب كلمة واحدة، تماماً كمن يدخل هيكلاً مقدساً، يدخله وحيداً، تحف به أناشيد الملائكة وصلوات القديسين، وآهات المعذبين. فتأخذه الرهبه، ويحرص على ألاّ تصدر عنه نأمة أو تحين منه لفتة.

حاولت في مطوّلتي هذه " أذكر" أن أسجّل ما علق في ذاكرتي من تلك الأيام، فوجدت أن الأمر قد يستغرق مساحة واسعة، وزمناً طويلاً، فاختصرت العمل، وحصرت حديثي على بعض المحطات الهامة في طفولتي وصباي. بدءاً من السنة السابعة من عمري وحتى الثالثة عشرة.
وقد تخيرت بعض الأحداث التي حرصت أن تجمع بين الخاص والعام، وأظنني لم أكتب عن تجربة في هذه المطولة، لم يعشها أبناء جيلي.
فهذه الطفولة التي أكتب عنها إذاً هي طفولتي وطفولة جيل كامل، من أبناء شعبي. وعلى الأخص في قريتي العربية الفلسطينية قبل عام ثمانية وأربعين، وبعده بقليل.

ولقد قسمت العمل إلى ثلاث عشرة لوحة تبدأ كل منها بكلمة "أذكر" وتتحدث عن تجربة إنحفرت عميقاً في وجداني. وتركت أثرها في حياتي كلها. ثلاث عشرة لوحة تتحدث عن مواد كثيرة. اليوم الأول في المدرسة. الناطور والتكافل الإجتماعي، سباق الخيل والعدل، تقلُّب الفصول وألعاب الطفولة، استقبال الأزواج العائدين من الحقل، العاصفة وما نتج عنها من بلبلة ولجوء وتشرد وآلام وذلّ وموت.
ومع اكتمال اللوحة الثالثة عشرة بعودتي شخصياً من اللجوء، والتصميم على التجذر في هذا التراب، أحسست ببركان من الألم يتفجر في فؤادي وبرغبة عارمة في أن أقول الكثير بعد، وبأعلى صوت، فكتبت المقطوعة الرابعة عشرة على شكل رسالة موجهة إلى ذاتي، أسترجع فيها الكثير من الآلام التي مارسناها في طفولتنا وصبانا، يوماً بعد يوم، بل لحظة بعد لحظة.
وبعد ذلك، وضعت في أول المجموعة مقدمة، أتمنى فيها العودة إلى ذلك العالم السحري، وخاتمة في نهايتها أرفض فيها تلك العودة وأعلن فيها عزمي على السير قدماً، ترحيباً بالطيور القادمة، ودأباً من أجل الفراشات الجديدة.

وهكذا اكتمل العمل فأصبح ست عشرة لوحة أعدت ترقيمها من جديد.

لقد تعمدت في هذا العمل أن أبدأ كل لوحة من اللوحات بكلمة "أذكر" وأن أكررها في بعض هذه اللوحات أكثر من مرة، إذ خيّل إلي أن تكرار هذه الكلمة يوحي بعمق الأثر الذي تركته تلك الأحداث عليّ، كما أنه يمثل صوت الناقوس، الذي يرنُّ مذكراً الأجيال الآتية بما حدث!!
تعمدت كذلك أن يكون الأسلوب قصصياً، وأن تكون الحركة السّردية في كل حكاية واضحة وديناميكية.

كنت اجدُّ في البحث عن الكلمة الصادقة البسيطة، الأصلية، حتى لو اضطرني ذلك إلى استعمال بعض الكلمات المحكيّة.
وقد صمّمت أن يكون العمل شعراً، لأن الشعر أقرب إلى الوجدان وألصق بالنفوس.
وأردته موزوناً لما فيه من إيقاع يغني الصورة والحركة. وعملت أن يعتمد هذا الوزن أسلوب التفعيلة أو ما يسمى بالأسلوب الحرّ، لما في هذا الأسلوب من مجال رحب، للشاعر وللفكرة معاً.
ولم يكن صدفة أيضاً أن اختياري وقع على تفعيلة "مستفعلن" على مدى المطولة كلها، لما في هذه التفعيلة من هدوء وسلاسة.
وحدانية التفعيلة هذه هي المطولة كلها، أملت أن تضفي على القصيدة وحدة إيقاعية، تغني وحدتها الموضوعية وتساعد حركتها السرديّة.
أما القافية فقد اردتها أن تكون حيث يجب أن تكون، لا إثقال فيها ولا مغالاة، إذاً اغنت الصورة والإيقاع والأحاسيس كانت، والا فلا...، لم أبحث عنها متعمداً وفي المقابل رحبت بكل ما جاء منها عفو الخاطر ووليد الإنفعال.

وعندما أنهيت نظم القصيدة وبدأت أعدّها للطبع، فكرت أن أضع لها مفتتحاً، مقولة ما، فترددت بين مقولتين.
الأولى لتشيخوف عندما قال:" لم يكن ثمة طفولة في طفولتي"، والثانية للشاعر وليم وورد زورت من قصيدته الشهيرة (ذكريات الخلود) يقول فيها:

"لا شيء يستطيع أن يعيد لحظة رونق العشب وبهاء الزهرة
ومع ذلك، فلن نحزن
بل سنجد القوة فيما يتبقى"

فاخترت المقولة الثانية لأن الفرح يجب أن ينتصر.

شكيب جهشان.

استمع للغنائية
1- البداية
2- الصباح
3- المدرسة
4- سباق الخيل
5- قصة الشاطر حسن
6- موسم الزيتون
7- موت الاخت الصغيرة
8- الفصول
9- الأم
10- الطائرة
11- رقصة العصي
12- الحصار
13- الرحيل
14- العودة
15- النهاية

© جميع الحقوق محفوظة لأسرة الشاعر الراحل شكيب جهشان
بريد اليكتروني: shakeeb_jahshan@hotmail.com